صنعاء لم .. ولن تسقط ... بقلم/ عبدالله زغيب*

صنعاء لم .. ولن تسقط ... بقلم/ عبدالله زغيب*

صنعاء لم .. ولن تسقط

بقلم/ عبدالله زغيب*

قبل نحو ثمانية وأربعين عاماً، خرج قائد قوات الصاعقة والنقيب في القوات «الجمهورية» اليمنية عبدالرقيب عبدالوهاب نعمان بشعار «الجمهورية أو الموت». كان هذا الشعار عنواناً لآخر وأخطر مراحل الحرب الأهلية اليمنية، التي أعقبت الثورة العسكرية على الإمامة المتوكلية في السادس والعشرين من أيلول العام 1962، حيث أعلن أنصار «الإمامة الزيدية» وقتها نيتهم «تحرير» العاصمة صنعاء مما تبقى من قوات عسكرية، خاصة بعد انسحاب الجيش المصري من اليمن بكل ما يمثل من ثقل في الميدان الى جانب «الجمهوريين». هكذا، شكلت حرب العاصمة تلك درساً يمنياً اضافياً في كيفية تحويل بديهيات الحروب بمقدماتها ونتائجها، إلى «واقع» مغاير تماماً، وإن كان مبنياً على أصول العلوم العسكرية، وبالتحديد بعدما أصبح الحديث عن «تحرير» العاصمة اليمنية صنعاء، خلال الأشهر القليلة الماضية، عنواناً لحملة رأي عام «فارهة» تشنها الآلة الإعلامية التابعة لـ «عاصفة الحزم».

«حصار السبعين»
نهاية شهر تشرين الثاني من العام 1967، أطبقت القوات الموالية «للإمامة المتوكلية» الحصار على صنعاء. وقتها كان أنصار الجمهورية في أسوأ أوضاعهم وفقاً لبيانات القوات «المشتركة» المهاجمة، التي تكوّنت من مرتزقة آسيويين وأوروبيين، وآلاف من القوات المسلحة السعودية، إضافة للألوية اليمنية الشمالية التي يقودها «أمراء الإمامة» كأحمد بن الحسين حميد الدين وعلي بن إبراهيم حميد الدين وغيرهم، والذين اعتمدوا خطة برية للهجوم على العاصمة لا تختلف كثيراً عمّا يسوّق اليوم على ألسنة عسكريين مقربين أو منخرطين بشكل كامل في العملية البرية التابعة لـ «عاصفة الحزم»، حيث هاجم «الملكيون» حجة وسيطروا على جبلي عيبان والطويل المشرفين على صنعاء، وتمكنوا من فرض حصار تام على العاصمة دام سبعين يوماً. الا ان المعركة لم تنته كما أرادها صناعها، اذ نجح المتحصنون في قلب الموازين، وشكلت هزيمة «الإمامة» في السابع من شباط العام 1968، بداية النهاية لعصر الإمامة الزيدية، برغم أن المتحصنين في صنعاء وقتها كانوا منقطعين عن العالم. فلم يبقَ في مدينتهم سوى البعثتين الديبلوماسيتين الجزائرية والصينية. إلا انهم تمكنوا من تقديم درس إضافي لم يستعجل النتائج، خاصة في الطبقة السياسية التي تدير وجهة البنادق، ومفاد الدرس هذا أن الرفاهية العسكرية، وفارق العدّة والعديد، وغزارة النيران، كلها عناصر اساسية في صناعة التفوق، لكن لضمان التفوّق سردية مختلفة تماماً.

«تحرير» العاصمة والذاكرة الخليجية
لا تختلف كثيراً الهويات «الوطنية» للمنخرطين في حرب اليمن الجديدة، ولم تختلف أيضاً طريقة ادارتهم «سلّم الطموح» في مسار القتال. وأمام الإعلانات المتكررة عن قرب انطلاق معركة «تحرير» العاصمة، تبدو الذاكرة الخليجية أكثر حاجة اليوم لإعادة إنعاش «موضوعي» يفرض على منتجاتها تعاطياً مغايراً وأكثر عقلانية في توجيه الطموح، وأكثر تفكرّاً في عملية تحويل «الرغبة» أو «المشيئة» الى فعل عسكري مباشر. وهنا لا يسجل للقيادة العسكرية التي تدير الجانب «التقني» في الحرب على اليمن، سوى رفضها الجداول الزمنية التي حاولت القيادات السياسية تنسيق عملياتها من خلالها، خاصة في موضوع النتائج المطلوبة، والتي تنطلق قبل أي بحث تقني في جزئياتها، من قراءة خاطئة للصورة العامة لما يجري في اليمن. حيث أثبتت المعركة منذ بدايتها حتى الآن، أن المنجز النهائي للقوات الخليجية وحلفائها في الداخل، لن يتخطّى الشريط الحدودي السابق ما بين الشمال اليمني وجنوبه، إضافة لقدرة «العاصفة» على إبقاء حالة الحرب المتنقلة وخطوط التماس الثابتة، من خلال قدرتها الهائلة على الإمداد والتذخير والضرب عن بُعد، وهو واقع لا يمكن أن يؤسس لمنجَز عسكري نهائي يدخل في سياق الأهداف الرسمية المعلنة للحرب على صنعاء.

«خطوط التماس» من مأرب إلى تعز
حرب اليمن في النسختين الداخلية والخارجية كوّنت مع الوقت انقساماً عمودياً واضحاً، انطلق من معطيات «تاريخية» واخرى لها علاقة بالظروف الموضوعية. فعجز القوات الخليجية والقوات الموالية للرئيس عبدربه منصور هادي عن إحداث اختراق حقيقي في المنطقة الشمالية، يظهر طبيعة الانقسام، إذ باتت المسألة تقتصر على معركتين اساسيتين مفتوحتين:
- الأولى في مأرب - الجوف والثانية في تعز، وإذ تتداخل في الاولى اعتبارات قبلية وولاءات متنوعة، إلا انها لم تستطع حتى الآن أن تقدم صورة واضحة لنسق التحرك العسكرية الخليجي هناك، حيث تواصل تلك القوات الانخراط في معركة استنزاف لا تظهر زخماً حقيقياً نحو التقدم، خاصة في مديرية مجزر ووجه الجبل ووادي الخانق الرابط مع الكولة. وتلك مناطق أصبحت وجهة نهائية من دون رجعة، لعشرات الآليات المدرعة الإماراتية والسعودية والقطرية، فيما يحافظ جبل هيلان على رومنسيته الجديدة ما بين إعلان من ذاك الطرف او غيره بالسيطرة الكاملة عليه. وهو أمر لم يحصل برغم مرور أشهر على المعارك المندلعة فيه، ومع استمرار واضح لتواجد «مدافعين» عنه من الجيش اليمني والحوثيين، إنما من دون قدرة واضحة على كسر نهائي للقوات المهاجمة.
ـ الثانية في تعز، والمعركة هناك أصبحت إلى حد بعيد تتماثل مع المعركة المفتوحة في مدينة حلب السورية بين القوات الحكومية والجماعات المسلّحة. إذ انطلقت عملية التحشيد العسكري في مواجهة الجيش اليمني في تعز، من القاعدة الشعبية العريضة التي تملكها جماعة «الإخوان المسلمين» في المحافظة، خاصة في صفوف عائلة المخلافي إحدى أكبر عائلات المنطقة، حيث يقود زعيمها حمود سعيد ميليشيا حزب «الإصلاح»، الجناح العسكري لـ «الإخوان»، وهي المكوّن الأساسي بل يمكن القول إنها المكون الوحيد في مواجهة الجيش اليمني و «الحوثيين». وفي المقابل، فإن للثقل التاريخي الذي يحظى به الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح في تعز، دوراً أساسياً في إبقاء حالة الحرب هناك على درجة معينة من التوازن، ومن خلال قوات تعود غالبية عناصرها الى عوائل من داخل مدينة تعز. وبذلك، دفع الجيش اليمني عن المدينة صفة «بؤرة» الاستنزاف التي حاولت قيادة «الحزم» تحويلها إليه.

«الغزو» يحتاج إلى «غزاة»
المقاربة الخليجية ـ اليمنية لمعركة الشمال، ما زالت حتى الآن تقوم على مقدمات خاطئة. فالحرب لم تتمكن، بكل ما أنتجت من فوضى، من تحويل الصراع الى فسيفساء شديدة التعقيد يمكن من خلالها الولوج إلى نقاط قوة الخصوم في صنعاء وصعدة، ما يعني أن الحرب على اليمن لم تتمكن من خلق حرب أهلية يمنية مشابهة لنموذج الستينيات، التي وإن انتهت بمرحلة «تحرير» صنعاء، إلا أنها مرت بمراحل عديدة من نسخ «احتلالاتها». لكن المهم اليوم أن معركة اليمن، ونظراً للاستخدام المفرط من قبل الرعاة الإقليميين للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، لأدوات «حديثة»، تُعدّ من منتجات حرب العام 1994 بين عدن وصنعاء، كحزب «الإصلاح»، و «الحراك الجنوبي»، والتنظيمات السلفية «الجهادية». لذلك، فإن النتيجة المكونة للصورة شبه النهائية، كانت أقرب الى مرحلة الحرب تلك، من نموذج وطني موحّد، ساعٍ لإعادة «الشرعية» إلى قصر صنعاء.
في الشمال اليمني، اليوم، تبدو المعادلة شديدة الوضوح لقطاع واسع من مكونات المدن والأرياف. فصنعاء وصعدة، بما تمثلان من ثقل شمالي يمني، تتعرّضان لحرب «خارجية» وبأدوات مختلطة. لذلك فإن القوات «الهجينة» ما بين ميليشيات جنوبية وقوات نظامية خليجية، لا تمتلك «مسوغاً» وطنياً. وبالتالي لا يمكن أن تشكل عناصر كافية لتحقيق نصر عسكري. إذ إن العنوان المسوّق بنجاح في اليمن اليوم أصبح وبوضوح، «غزو» صنعاء وليس تحريرها، وهذا يفرض واقعاً «شمالياً» أكثر شراسة من الاصطفاف في وجه القادم، ما يفرض تغييراً جذرياً في المقاربة الخليجية للحرب على اليمن.

«ابتلاع» صنعاء.. رفاهية الوهم
يبدو صناع القرار في العواصم الخليجية اليوم أكثر حاجة لفهم طبيعة الحرب، فهي لم تكن سوى إعادة إنتاج دائمة لفعل قتل «منظّم» ومقونن بسياق تحكمه شريعة الصدام. الفارق كان دوماً في التظهير والإنتاج، حيث إن «أدلجة» الحروب أو «تبويبها» بمنظومات أخلاقية فوقية، وبأبعاد تتنوّع ما بين الوطني والديني والعرقي والمذهبي، كانت الشغل الشاغل للمتحاربين دوماً. وبالتالي فإن «تعليب» الخصوم ومنحهم هويات جاذبة لتشدّد الطرف المقابل لا تكفي. هي لا تكفي في سوريا، فكيف باليمن. فالحرب تحافظ دوماً على هويتها وحقيقتها. «حقول القتل» تبقى على ماهيتها، مهما تنوّعت وسائل المقتتلين. وهي التي لم تتعدَّ الحديد والنار والدخان والماء طوال الألفيات الماضية، إنما بقولبة مختلفة مع كل حزمة جديدة من منتجات «العقل القاتل». وهكذا، فإن رفاهية السياسة تنتفي تماماً في الميدان، وتنتفي فيه أيضاً كل جوانب الإحساس المسبق بالتفوق.
درس اليمن اليوم، هو أن غزو العواصم والمدن الرئيسية من قوات «أجنبية» لا يمكن أن ينجح إلا من خلال زخم هائل من القوة النارية، وفارق صريح وواضح على المستويات كافة. ومن الأمثلة هنا، استخدام إسرائيل لأكثر من مئة ألف مقاتل ونحو الفي مدرّعة، منها 1100 دبابة لاجتياح لبنان العام 1982، في مواجهة آلاف قليلة من المقاومين، وللسيطرة على عشرات الكيلومترات فقط. وهذا يفرض بالنموذج اليمني جردة حساب مختلفة، مع الفارق الهائل في طبيعة المتقاتلين، خاصة أن السعودية بدت منذ انطلاق العمليات عاجزة عن حشد عديد مناسب لإدارة معركة تمكنها من تحقيق أهدافها، بل بدت شديدة العجز حتى الآن في الدفاع عن أراضيها في وجه التوغلات اليمنية الدائمة، رغم انخراطها في حرب ما وراء الحدود.

*كاتب عربي متخصص بشؤون اليمن، ونشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-01-29 على الصفحة رقم 17 – قضايا وآراء

دخول المستخدم
القائمة البريدية
استطلاع رأي
ما رأيك في موقع المجلس الزيدي
مجموع الأصوات : 0
صفحتنا على الفيسبوك
جميع الحقوق محفوظة 2024